فصل: مجالات الشورى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي **


 مجالات الشورى

مدخل‏:‏ مضى القول بأن الشورى في حقيقتها استطلاع الرأي من أهل الخبرة للوصول إلى أقرب الأمور للحق، وأن الحق في أمور الشورى لا يقطع به لأن المقطوع بأنه حق لا يدخل في مجالات الشورى، وسيأتي إن شاء الله تفصيل لهذه الجملة الأخيرة، وعرفنا أيضاً أن أسعد الناس حظاً في الوصول إلى الحق هم الذين يتجردون لله سبحانه وتعالى، ويتخلصون من هوى أنفسهم، ومضى كذلك القول بأن الشورى مبدأ واجب التطبيق وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام، وأنه مع ذلك مرن في التطبيق واتخاذ الشكل المناسب في كل عصر من عصور الإسلام‏.‏

والآن أخي القارئ نحن مع المجالات التي سيعمل أهل الشورى فيها، وهذا للإجابة عن هذا السؤال‏:‏ ما العمل الذي سيزاوله أهل الشورى عندما يجتمعون‏؟‏ وفي أي القضايا سيبحثون ويناقشون‏؟‏

وللإجابة عن هذا السؤال أحب أن أذكر بأن هناك فروقاً أساسية بين نظام الشورى في الإسلام وأي نظام آخر، وسيأتي لهذه الفروق فصل مستقل، إن شاء الله تعالى‏.‏

ونستطيع أن نرد هذه القضايا إلى ستة أبواب رئيسية هي‏:‏

أولاً‏:‏ سياسة الأمة في الحرب والسلم‏:‏

الأمة الإسلامية تحمل عقيدة نشطة تلزم أتباعها بالحفاظ عليها أولاً ثم الدعوة إليها، وذلك أنها تحمل كلمة الله وتطبق نظامه وشريعته، ومن أجل ذلك فالأمة تعمل -أو هكذا فرض عليها- لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبذلك ينقسم الناس مع هذه الأمة إلى مؤمن موال مؤيد وكافر معاند محارب أو مستأمن مسالم أو معاهد له شروطه ومدته، والأمة في حركتها النشطة بدعوتها، وقيامها بنشر رسالة الإسلام التي تؤمن أنها رسالة الله، وانقسام الناس معها على هذا النحو فإنها تخوض حروباً، وتبرم عهوداً، وتجنح للسلم أحياناً، وفي كل هذه الأحوال يحتاج الأمر منها إلى دراسة وافية لقوتها وقوة أعدائها، والشروط التي ينبغي أن توقع العهود بها، ومتى تجنح للسلم، ومتى تنشط في الحرب، وهذا كله لا يحتمله عقل واحد، ولا يحوطه رأي واحد، ولا يستطيع رجل واحد مهما بلغ علماً وتقوى أن يصدر فيه عن الحق دائماً، ولذلك كان أول مجالات الشورى في النظام الإسلام هو تنظيم وتخطيط سياسة الأمة في الحرب والسلم، ولأهمية هذا الباب من أبواب الشورى حصر كثير من علماء السلف الشورى فيه فقالوا قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ هو في الحروب ما جرى مجراها‏.‏ وذلك أنهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من استشارة أصحابه في هذا المجال كما استشارهم في بدر وأحد وفي فداء الأسرى، وفي مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

وأحب في هذا الصدد أن أبين للأخوة الكرام أن هناك فرقاً يجب مراعاته دائماً بين النص من الكتاب أو السنة، والعمل بهذا النص‏.‏ فالنص لا يتغير مدلوله وحكمه في أي عصر من عصور الإسلام ولا في أي مكان من الأرض، ولكن ظروف العمل بالنص تختلف حسب المكان والزمان والملابسات - وأرجو أن ننتبه جيداً إلى هذا حتى لا يفهم كلامي على غير وجهه ولا يؤول إلى ما لا أريد وأقصد‏.‏

ففي القتال مثلاً آيات كثيرة بعضها يأمر بقتال من يقاتلنا فقط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا‏}‏‏.‏

وأخرى تأمر بقتال المشركين كافة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة‏}‏‏.‏

وهناك آيات تأمر بالسلم إذا جنح إليه العدو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله‏}‏ وأخرى تأمر بالقتال وعدم الدعوة إلى السلم‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدعو للسلم وأنتم الأعلون‏}‏ وليس هناك اختلاف بين هذه الآيات فلكل آية ظروفها وملابساتها وإذا كان هناك نسخ في بعضها قرره العلماء فإنما كان ذلك بحسب المدى الذي وصلت إليه أمة الإسلام، فالمسلمون قبل بدر سمح لهم بالقتال وكان حراماً عليهم، وسمع لهم بقتال من قاتلهم فقط، والانتصار ممن ظلمهم وأخرجهم من ديارهم، ثم لما تألبت العرب عليهم ورمتهم عن قوس واحدة في الخندق، وأصبح بعد النصر في هذه الغزوة للمسلمين طاقة بقتال الناس والكفار جميعاً أمرهم بذلك‏.‏ ولا يعني هذا عند من يفهم شيئاً من دين الله عز وجل أن المسلمين في حال ضعفهم مفروض عليهم أن يعلنوا الحرب على الناس جميعاً من أول وهلة، ولكن السياسة الشرعية تقتضيهم أن يعملوا بكل نص حسب ظروفه ومقتضياته وأحواله دون إلغاء لما سواه من النصوص‏.‏ ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد عطل العمل بسهم المؤلفة قلوبهم وقال‏:‏ لقد كان هذا وفي المسلمين ضعف أما الآن فلا، ولكنه لم يلغ النص ولم يعارضه وإنما ترك العمل به فقط في الظروف الذي أداه اجتهاده إلى أنه لا لزوم للعمل به فيه‏.‏ وأنه عطل حد السرقة في عام الرمادة ولا يسمى هذا منه إبطالاً أو نسخاً‏.‏ وملابسات الأمة الإسلامية وظروفها في كل عصر من العصور تلزمها اجتهاداً تضع به كل نص من النصوص في مكانه وملابساته الصحيحة ولا يمكن أن يصدر بهذا رأي رجل واحد، واجتهاد حاكم واحد ولا بد أن يجتمع لذلك ويقرر ذلك مجموع علماء الأمة ومجتهدوها ولا مكان ولا مجال له إلا بالشورى‏.‏

وأزيد هذا الأمر وضوحاً وهو واضح -بحمد الله- فأقول‏:‏ لا يزعم زاعم منا أنه يقوم بكل أوامر الإسلام التي أمره الله بها وإنما يفعل -إن رزقه الله التقوى- في حدود الاستطاعة التي جعلها الله مناطاً للتكليف حيث قال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ فالمؤمن التقي يفعل في حدود استطاعته، ومعنى ذلك أنه يجد ويجتهد ويبذل الوسع والجهد المستطاع ومع ذلك لا يزعم لنفسه أنه قائم بكل ما كلفه الله به من عمل واجب كحضور جماعة الصلاة دائماً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله‏.‏‏.‏

وكذلك الشأن بالنسبة للأمة فإن الواجب على الأمة بمجموعها من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الله هو بحسب إمكانياتها وجهدها ووسعها‏.‏ وإذا كان الفرد المسلم يستطيع أن يصل بمفرده إلى حدود وسعه وطاقته وما يجب عليه نحو أوامر الله عز وجل‏.‏ فإن الفرد الواحد لو كان مجتهداً لا يستطيع وحده أن يقرر مدى طاقة الأمة وما ينبغي عليها أن تقوم به نحو تنفيذ أوامر الله عز وجل لها بقتال الكفار والدعوة إلى دينه ولا يستطيع أيضاً أن يصل إلى الكيفيات والأحوال التي تشن فيها الحرب أو يركن فيها إلى السلم ولذلك كان لا بد من الشورى في هذا الميدان‏.‏ أعني ميدان سياسة الأمة في الحرب والسلم والمعاهدات والدعوة، وستكون الشورى لاختيار حكم الله المناسب للظروف والحالة والمكان والزمان، ولن يعني هذا مطلقاً تعطيل أحكام أخرى في هذا المقام‏.‏ وهذا سر قول الرسول صلى الله عليه وسلم لقواده في الغزو‏:‏ ‏[‏وإن أنت استنزلت أهل حصن فطلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله فلا تفعل لأنك لا تدري أتصيب فيم حكم الله أم لا‏]‏ وقد مضى شرح لهذا النص في موضع آخر من هذا الكتاب‏.‏

وخلاصة هذا الأمر أن الميدان الأول من ميادين الشورى هو سياسة الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم قتالاً أو سلاماً أو عهداً أو صلحاً ولا يقرر هذا الحاكم المسلم بمفرده بل بمجموع آراء الأمة وفكرها، وهذه هي الشورى‏.‏ وتبادل الرأي في هذا الصدد هو لاختيار حكم الله المناسب للظروف والحكم بحسب قوة الأمة وحالة عدوها‏.‏‏.‏

ثانياً - أولويات التطبيقات للأحكام الشرعية‏:‏

المشكلة الأولى التي ستقابل أي حكم إسلامي بمفهوم الكلمة الشرعي -لا بمعنى الكلمة العرفي الكاذب هي أولويات التطبيق للأحكام الشرعية- فالأمة الإسلامية بعد ضياع الخلافة منها، وقيام الدول في أرضها على أسس وطنية أرضية لا على أساس عقائدي إيماني، وإزاحة التشريع الإسلامي من منصة الحكم ومزاحمة القوانين الأخرى للتشريع الإسلامي نشأت فيها بذلك أوضاع بعيدة كل البعد عن تشريع الإسلام وروحه، فقانون العقوبات الإسلامي بوجه عام مبعد مقصي، وكذلك قوانين السياسة الخارجية، وطائفة كبيرة من الأحكام الإقتصادية والاجتماعية بعيدة عن تشريع الإسلام، ولذلك فستكون المشكلة الأولى -كما قلت آنفاً- من أين يبدأ الحاكم الإسلامي تطبيق الشريعة الإسلامية‏.‏ أمن السياسة الخارجية أم من إقرار قانون العقوبات فيقتل القاتل، ويقطع يد السارق ويرجم الزاني، أم بتعديل النظام الإقتصادي فيحرره من الربا والامتيازات المحرمة، أم بتطهير المجتمع من الرذائل والفسق فيمنع الخمر، ويغلق أماكن الفساد واللهو المحرم ويأمر النساء بالستر والتعفف‏.‏ وهل يبدأ بهذا كله دفعة واحدة وفي يوم واحد‏؟‏ أم يتدرج في الإصلاح والبناء‏؟‏ وإذا كان يتدرج فما هم الأهم من ذلك ليقدمه على المهم‏؟‏

وهنا يأتي دور الأولويات في تطبيق الشريعة، وهذه الأولويات سيختلف النظر فيها كثيراً‏.‏ إذ بينما يرى أناس أن النظام الاقتصادي يأتي في المقدمة سيرى آخرون أن تطهير المجتمع أولى من ذلك، وسيدافع آخرون عن رأيهم بأن السياسة الخارجية هي أهم المهمات، وسينادي آخرون بتطبيق قانون العقوبات أولاً وقبل كل شيء، ولا شك أن مجلساً للشورى يجتمع فيه أولو العلم والفضل من المسلمين سيقرر بعد نظر ونقاش الخطة التي يراها أمثل لتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً، وهذا هو المجال الثاني من مجالات الشورى إنه بحث الأولويات في تطبيق شريعة الإسلام وذلك حسب ملابسات الوقت وأحوال الناس واستعداداتهم والقوة المهيأة لحكومة إسلامية تريد تطبيق الإسلام وسط هذا الطوفان الهائل من أفكار الجاهلية ومعتقداتها ووسط طوفان آخر من الفسق والرذائل عم وجه الأرض كلها بالفساد والانحلال ولن تكون هذه مهمة يسيرة أبداً بل أنها مهمة شاقة للغاية لأنها تقتضي علماً واسعاً وحكمة عظيمة ولا يفهم هذا إلا من عرف منهج التشريع الرباني وتدرجه حسب استعداد النفوس وقبولها وعرف أيضاً منهج الإسلام في تربية الجماعة المسلمة والأمة المسلمة وأما من أوتوا نصيباً قليلاً من العلم فإنهم يظنون أن حاكماً مسلماً يستطيع أن يطبق الشريعة الإسلامية في الأمة بين عشية وضحاها وهذا سذاجة وجهل وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة فلا يمكن أن يكون لرأي واحد وصول إلى الحق في هذا الأمر الخطير، ولذلك كانت الشورى في هذا الصدد من أهم الأمور‏.‏

وأعيد القول هنا أيضاً بأن الشورى من أوليات تطبيق الحكم الشرعي لا تعني مطلقاً أن الحكم الذي تأخر في التطبيق قد كفر به وجحد، وإنما تعني أن وسع الأمة وطاقتها لم تحتمله بعد، وهكذا تتدرج الأمة في مراقي العمل بالشريعة كما يتدرج الفرد فيتكلف من الأعمال ما يطيق شيئاً فشيئاً حتى يبلغ الكمال الذي قدره الله له، وهكذا تتدرج الأمة في تطبيق الأحكام حسب استطاعتها حتى تبلغ الكمال المقدر لها، ولا يستطيع تقدير هذه الاستطاعة إلا أهل الرأي والخبرة والمشورة من المسلمين‏.‏

ثالثاً‏:‏ اختيار الإمام أو الخليفة‏:‏

الأمير أو الإمام أو الخليفة‏.‏

الأسماء الثلاثة السابقة أطلقها المسلمون على من يتولى شؤونهم‏.‏ وسر اختيار هذه الأسماء ليس غامضاً، ولا بعيداً، فالأمير بمعنى الآمر وقد اختار هذه التسمية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قيل له‏:‏ يا خليفة خليفة رسول الله فقال‏:‏ أنتم المؤمنون، وأنا أميركم‏.‏ فسمي أمير المؤمنين، وأما الخليفة فهو من يأتي بعد سابق له، وقد سمي بذلك أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بشؤون المسلمين، وتوحيدهم، والدعوة إلى الإسلام وقتال المخالفين، وإقامة شرع الله في الأرض‏.‏

وأما الإمام فهو المقدم في الأمر ويطلق على من يتقدم للصلاة بالناس وقد أطلق على الأمير والخليفة والإمام لأنه المقدم في أمور المسلمين عامة، وفي الصلاة خاصة، والمقتدي برأيه‏.‏

والحاصل أن الحاكم في الإسلام يطلق عليه الخليفة لأنه يخلف من سبقه في القيام بشؤون المسلمين ويطلق عليه الأمير والإمام‏.‏

وهذا المنصب عظيم خطير لأن المسؤولية فيه مزدوجة فالإمام في الإسلام مسؤول عن أعماله أمام الله تبارك وتعالى، ومسؤول أمام الأمة أيضاً فهو ليس حاكماً مطلقاً لا يسأل عما يفعل بل يسأل ويراجع ويناقش لقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏}‏ الآية، فبعد أن أمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر أخبر أنه قد يحصل التنازع في أمر ما وعند ذلك يجب رد ما تنوزع فيه إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا إقرار لمبدأ اختلاف وجهة نظر الناس مع وجهة نظر ولي الأمر، ولم يقل سبحانه وتعالى مثلاً‏:‏ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولا تنازعوهم في شيء، بل اسمعوا لهم وأطيعوا مطلقاً، وذلك أن أولياء الأمور ليسوا بمعصومين لا بمنجاة من الخطأ بل هم معرضون لذلك، وقد يوفق إلى الصواب غيرهم، وهنا كانت القاعدة الربانية للوصول إلى الحق في أمور الاختلاف‏.‏ وهي رد ما تنوزع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولذلك أعلن الصديق أبو بكر من أول يوم تولى فيه خلافة المسلمين هذا المبدأ ‏"‏أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم‏"‏‏.‏

وأعلنه عمر بن الخطاب أيضاً رضي الله عنه حيث قال‏:‏ ‏"‏إذا أحسنت فأعينوني وإذا أسأت فقوموني‏"‏‏.‏‏.‏

وأما المسؤولية أمام الله تبارك وتعالى فقد نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله المشهور ‏[‏كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته‏.‏‏.‏‏]‏ الحديث‏.‏

ومهمة الحاكم في الإسلام مهمة شاقة عسيرة لأنها ذات طرفين‏:‏ الطرف الأول القيام بشؤون الدين تطبيقاً وتحكيماً والطرف الثاني القيام بشؤون الدنيا، ورعاية مصالح الأمة في هذه الدار‏.‏ وأما الحاكم في غير النظام الإسلامي فمهمته دنيوية خالصة لا يضيره عند قومه أن يكون جاهلاً بالدين غير عالم به‏.‏

وإذا كانت مهمة الأمير في الإسلام ذات شقين وميدانين، فإن من مقتضيات هذا أن يكون الأمير عالماً بالدين مجتهداً فيه، عالماً بالدنيا ذا رأي وسياسة وحكمة في معرفة شؤونها‏.‏ وليس هذا بالطبع أمراً سهلاً ميسوراً، فدراسة الدين دراسة واسعة عظيمة تحتاج إلى اجتهاد وانقطاع وتوفر زمناً ليس قصيراً ودراسة الدنيا تحتاج إلى معرفة بأنواع الناس، وعوائدهم، وأفكارهم، وعقائدهم وبسياسات الحرب والسلم، وعلم بالتاريخ ومجاري الأمور وكل هذه الآن علوم عظيمة مستقلة، لا بد من الإلمام بشيء كثير منها لمن يتصدى لمثل هذه الأمور، ومن الجهل والغباء الظن بأن الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم قد ساسوا الدنيا وفتحوها ولم يكونوا على علم بهذه الأمور‏.‏ وليس المجال الآن مجال بيان المدى الذي وصله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من علم ودراية بهذه الأمور الدنيوية ومكان هذا كتب التاريخ والرجال‏.‏

هذا المنصب الخطير العظيم، الإمامة العامة للمسلمين ليس هناك من طريق سليم شرعي للوصول إليه إلا طريق الشورى، فالشورى هي النظام الإسلامي الوحيد الذي يأتي عن طريقه الإمام أو الحاكم أو الأمير أو الخليفة كما يحلو لنا أن نسميه‏.‏

وقد يكون هذا مخالفاً لما دونه علماء السياسة من المسلمين الذين جعلوا من طرق الوصول إلى الحكم التغلب العام ‏(‏الغلبة‏)‏ وحيازة الشوكة ‏(‏والشوكة هي القوة الضابطة للنظام والأمن‏)‏ وأعطوا الشرعية ووجوب الطاعة لمن توصلوا إلى الحكم والخلافة على هذا النحو‏.‏

إلا أن كلامهم هذا ليس في حقيقته إقراراً لهذا المبدأ، ولكن رضوخاً له في ظروف استثنائية، وهو كما يقولون من باب ‏(‏ارتكاب أخف الضررين‏)‏ فالخروج على طاعة الإمام والخليفة الذي جاء إلى الحكم تسلطاً وقهراً وحاز الشوكة والغلبة أكثر ضرراً من الرضوخ له، وإقراره، وهذا ما جعل بعض كتاب الغرب يتهم الإسلام بمساندة الظلم، وإقرار التسلط‏.‏ واتهامهم هذا في حقيقته قصور نظر، وعدم إدراك‏.‏ وليس هذا مجال الرد على هذه الشبهة‏.‏

فالمهم هنا إثبات أن المبدأ الأساسي في الظروف الطبيعية الآمنة لاختيار الحاكم هو الشورى، وليس هناك طريق غير ذلك، وإن كان يتجاوز عن هذا المبدأ إذا وصل الحاكم المسلم المنفذ لشرع الله للحكم عن طريق الغلبة وفرض السلطان ويفتي بطاعته ويحرم الخروج عليه، وليس من هذا إقرار لطريقة وصوله إلى الحكم - فالتسلط وفرض السلطان بالقوة مرفوض شرعاً ولكن حقناً للدماء وارتكاباً لأخف الضررين‏.‏

وإذا كانت الشورى هي المبدأ الأساسي لوصول الحاكم إلى الحكم فالواجب أن لا يجعل الواقع التاريخي دليلاً شرعياً يتبع ويقاس عليه، وذلك أن الواقع التاريخي خاضع تماماً للظروف والملابسات التي تأخذ مجراها، وتفرض نفسها‏.‏

 خلافة أبي بكر‏:‏

فخلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كانت خيراً وبركة على الإسلام والمسلمين، ولم يكن لأبي بكر في الصحابة شبيه أو نظير أو مكافئ في الفضل والسبق والمكانة، والمنزلة، ومع ذلك فالصورة التي اختير بها هذا الصحابي الجليل كانت صورة استثنائية تحفظ لا يقاس عليها لأنها كانت ذات ظرف خاص وملابسات معينة حتمت هذه الصورة للاختيار‏.‏ وحتى أقدم الدليل على كلامي هذا سأثبت للقارئ الكريم تفسير عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الظرف وهذه الملابسات وهذا التفسير لعمر يتضمنه أصح كتاب بعد كتاب الله تبارك وتعالى وهو صحيح البخاري، وقد آثرت أن أنقل هذا الأثر بطوله لما فيه من الفوائد العظيمة التي تتعلق بموضوعنا هذا وبموضوعات أخرى لن تصرفنا عن موضوعنا الأساسي وسنستفيد منها فائدة بليغة إن شاء الله تعالى‏.‏

روى البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال‏:‏- كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذا رجع إلي عبدالرحمن فقال‏:‏ لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول‏:‏ لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثم قال‏:‏ إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبدالرحمن‏:‏ فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعوها على مواضعها فقال عمر‏:‏ أما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة‏.‏ فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر فجلست حوله، تمس ركبتي ركبتيه، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر علي وقال‏:‏ ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله‏!‏ فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال‏:‏

أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي‏:‏- إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل، والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على كل من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف‏.‏

ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم -أو أن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم- الا ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، وقولوا عبدالله ورسوله‏]‏، ثم أنه بلغني أن قائلاً منكم يقول‏:‏ والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وأنه قد كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا وخالف عنا علي والزبير، ومن معهما، واجتمع إلي أبي بكر، فقلت لأبي بكر يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا‏:‏ لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم‏.‏ فقلت‏:‏ والله لنأتينهم‏.‏ فانطلقنا حتى أتينا في سقيف بني ساعدة، فإذا رجل مزمن بين ظهرانيهم، فقلت من هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا سعد بن عبادة فقلت ما له‏؟‏ قالوا يوعظ‏.‏ فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال‏:‏ أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام‏؟‏ وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يَحْضُنُونَا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم -وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر- وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر‏:‏ على رسلك‏.‏ فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قاله في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال‏:‏ ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم -فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا- فلم أكره ممن قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار‏:‏ أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب‏.‏ منا أمير ومنكم أمير يا معشر المهاجرين، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة، فقلت‏:‏ قتل الله سعد بن عبادة‏.‏

قال عمر‏:‏ وأنا والله ما وجدنا فيما حضرنا أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فأما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن تخالفهم فيكون فساداً، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا‏.‏

وهذا الأثر العظيم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلك الخطبة التاريخية فيها كثير من الفوائد والأصول لسنا بصدد التعرض لها الآن ولكننا سنناقش فقط مكان الشاهد من هذه الخطبة على ما نحن بصدده ألا وهو اختيار الحاكم فعمر يعلن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منبره، أن أمر بيعة الحاكم يجب أن تسبقها الشورى، وأن من تعجل البيعة قبل الشورى فإنه لا يتابع في بيعته، لا الذي بايع، ولا من بويع، ويقول هذا الكلام بالنص الصريح الواضح‏:‏

‏"‏من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو الذي بايعه تغرة أن يقتلا‏"‏ وقد كرر هذه المقالة في خطبته مرتين‏:‏ مرة في بداية ذكره لمسألة البيعة ومرة في نهاية خطبته، وهذه الخطبة ليست خطبة مرتجلة بنت تفكير سريع، واستثارة، وإنما هي وليدة تفكير طويل، وإعداد استمر أكثر من أسبوع، فقد عزم عمر على بيان أمر بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بموسم الحج وكانت آخر حجة له، ولكن عبدالرحمن بن عوف نصحه بالعدول عن هذا لأن الموسم يجمع غوغاء الناس الذين سيفهم قسم منهم هذه الخطبة على غير وجهها ويطيرها في كل مكان‏.‏ ولذلك انتظر حتى أتى المدينة ثم خطب بها‏.‏

ثم يعلل عمر رضي الله عنه النهي عن متابعة البيعة لمن بايع إماماً بغير مشورة بقوله ‏"‏تغرة أن يقتلا‏"‏ والمعنى كما قال ابن حجر والقسطلاني أن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه، وعرضهما للقتل‏.‏ وذلك لمخالفة جماعة المسلمين وجمهورهم، وانفرادهما واستعجالهما بالأمر دون المشورة العامة في المسلمين‏.‏

ثم علل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقوع بيعة أبي بكر الصديق على هذا الأمر الذي ينهى عنه بأن ظروف تلك البيعة كانت ملجئة وقاهرة، فقد اجتمع الأنصار لمبايعة أمير منهم ولو تم ذلك ما كان للمهاجرين أن يخالفوهم وإلا حدث شر كبير، وما كانت لتجتمع العرب بأسرها على رجل من أهل المدينة الذين كانت لهم ثارات وحروب قديمة مع بعضهم البعض، فالأوسي لا يرضى عن الخزرجي وكذلك العكس فكيف بسائر العرب، وكانت لقريش منزلة خاصة عند سائر العرب حيث كانت تحترم وتقدم في الجاهلية وتقول العرب أهل بيت الله فلا نؤذيهم ولا نتعرض لهم‏.‏ ولذلك قال أبو بكر للأنصار في خطبة السقيفة‏:‏ ‏"‏ما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش‏"‏ ويعني بالأمر الخلافة‏.‏

ولخشية عمر من مبايعة الأنصار رجلاً منهم تعجل أبي بكر ولم تكن عن مشورة كاملة، ثم أخبر بأن أبا بكر ليس في المسلمين مثله سابقة وعلماً ودراية بالسياسة والدين ولين جانب وقوة في الحق، ولذلك اجتمعت عليه القلوب سريعاً ولم ينازعه في الأمر أحد إلا ما كان من غضب سعد بن عبادة الخزرجي لنفسه، وتأخر بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ثم لحوقه المسلمين في ذلك، وإعلان هذا على الملأ‏.‏

ولذلك قال عمر‏:‏ ‏"‏أنا والله ما وجدنا فيما حضرنا أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فأما بايعناهم على ما لا نرضى، وأما أن نخالفهم فيكون فساداً‏"‏‏.‏

وقال أيضاً في شأن أبي بكر‏:‏ ‏"‏وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر‏"‏ ومعنى هذا أنه بلغ في السبق والمنزلة بحيث من أراد أن يلحقه تقطع عنقه من النظر والمبايعة ولا يستطيع ذلك‏.‏

ومعنى هذا أن بيعة أبي بكر الصديق حالة فريدة تحفظ ولا يقاس عليها غيرها‏.‏

وقد مهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الأصل الذي أعلنه أمام جمهور الصحابة، وأعني أصل المشاورة لاختيار الحاكم بأن هناك من القرآن ما هو منسوخ تلاوة لا حكماً ودلل على ذلك بآية الرجم وآية النهي عن الانتساب إلى غير الآباء التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من انتسب إلى غير أبيه -وهو يعلمه- إلا كفر‏]‏ وكذلك هناك من السنة والقواعد الدينية ما قد لا نجد النص الصريح المفرد عليه وقد يكون هذا الأمر من الظهور والوضوح بحيث لا يحتاج إلى نص فكون الإمام في الإسلام يجب أن يكون عن شورى عامة هو من القواعد الجلية الواضحة، والمسلمات البديهية التي لا تحتاج إلى نصوص مفردة لاثباتها، ولولا الخوف من أن يطول مقام الشرح لهذا الأمر لأوردت عشرات من الآيات والأحاديث التي تدل على هذا بما يفهم منها وما يستنبط لا بالنص الظاهر، ولذلك وافق الصحابة جميعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما قاله ولم يعترض عليه معترض واحد، وهو الذي كان يسمح للمرأة بأن تعترض عليه‏.‏‏.‏ أقول لم يعترض عليه معترض واحد من الصحابة وفيهم الفرسان والشجعان وهو يكرر هذه العبارة مرتين‏:‏ ‏"‏من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا‏"‏‏.‏

ولم يقل له أحد‏:‏ اثبت ما لم يثبت الشرع، وزدت في الدين ما ليس منهم، وخالفت سنة رسول الله، وتزيدت على القرآن بل جميعهم رضي الله عنهم أقروه فيما قال، وفهموه عنه تعليله لوقوع بيعة أبي بكر الصديق على ما وقعت عليه‏.‏ وليس هناك إجماع أبلغ من هذا‏.‏

رابعاً‏:‏ توجيه النظام المالي‏:‏

النظام المالي في الحكم الإسلامي نظام محدد واضح من حيث مصادر الثروة العامة وبيت المال وكذلك وجوه الصرف، وفي كل نصوص واضحة جلية في الكتاب والسنة، ومع ذلك فهناك كثير من الفرعيات لا يمكن البت فيها برأي الفرد الحاكم ولا بد من الرجوع فيها إلى آراء أهل الشورى وحكمهم النهائي، وكذلك هناك كثير من الملابسات والحالات الخاصة الاستثنائية توجب إيقاف العمل ببعض الفرعيات، أو استحداث فرعيات أخرى‏.‏ وعملية التشريع هذه بالإيقاف أو الاحداث لا يمكن ولا يجوز أن يكون الرجوع فيها كمصدر وحيد للتشريع إلى رأي الفرد الحاكم بل لا بد من الرجوع في ذلك إلى حكم الشورى‏.‏

وهذا بيان للإجمال السابق‏:‏

مصادر الثروة ‏(‏بيت المال في النظام الإسلامي‏)‏‏:‏

أولا‏:‏ المصدر الأول من مصادر بيت المال هو الزكاة، والزكاة نظام محدد في السنة من حيث الأموال التي تجب فيها الزكاة، والمقادير التي يجب إخراجها، ويكاد أن لا يكون لأهل الشورى نظر في هذا الأمر إلا من حيث الإشراف والمراقبة وسيأتي للإشراف والمراقبة باب خاص من أبواب مجالات الشورى إن شاء الله تعالى‏.‏

ثانياً‏:‏ الركاز‏:‏ الركاز كلمة جاءت في الفقه تحمل معنى الثابت في الأرض من المعادن التي ركزها الله فيها كالذهب والنحاس والبترول والفضة والملح ‏(‏وليس هذا معدناً ولكنهم يدخلونه في الركاز، وكذلك ما ركزه الناس من كنوز كالآثار القديمة والأموال‏)‏‏.‏ والمعروف أن بيت المال يدخله الخمس من هذا الركاز وأما الأخماس الأربعة فهي لمن حصل باجتهاده وتنقيبه على هذه الكنوز‏.‏

وقد تكون هذه القسمة غريبة في وقت ظهرت فيه الثروات الضخمة كالبترول والذهب والنحاس بهذه الكميات الهائلة، وقد يقول قائل وكيف يملك هذا المال كله فرد منقب أو أفراد مشتركين‏.‏ وهو يجب أن يكون للأمة بكاملها‏.‏

وهذا القول خطأ من قائله في التصور والفهم فالشركات المنقبة عن البترول في بلاد العرب وأرض الإسلام والتي تحصل على نصيب الأسد من هذه الكنوز شركات أهلية أجنبية وليست الشركات حكومية، والعجب أن النسبة التي تدفعها هذه الشركات لحكوماتها هي نسبة قريبة مما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً وهي تصل أحياناً إلى 25% أي الربع، والمال القومي في أمريكا مثلاً عماده الأول هو هذه الضريبة على هذه الشركات التي تغزونا وتمتص خيرات بلادنا‏.‏

ولو كان مبدأ الحرية الاقتصادية الذي نادى به الإسلام معمولاً به في أرض الإسلام لكانت ثرواتنا جميعها اليوم بأيدينا، وشركاتنا هي التي تستخرج بترولنا من أرضنا بل وتبحث في أماكن أخرى عن مشاركة وإنتاج ولكننا وقعنا في خطأ الغفلة أولاً فأعطينا ثروتنا بعقود جائرة باطلة تسمى عقود الامتياز لأعدائنا، ثم نطالب اليوم بتأميمها وهو خطأ جديد نصحح به خطأ قديماً، ولست أعني بالتأميم استرداد السيطرة على هذه الثروة بشركات أهلية إسلامية إذا أن سيادتنا على ثرواتنا هي جزء من مفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ ولكني أعني به سيطرة الدولة على كل شيء وهذا أمر مرفوض في الإسلام لأنه تكريس للكسل والتضخم الوظيفي وإتلاف للمال العام وأما التأميم بمعنى نقل السيطرة والإشراف على مصادر الدخل من الأيدي الأجنبية إلى أيدي المسلمين فهو أمر واجب لازم‏.‏

وخلاصة هذا الأمر أن مبدأ الركاز مقنن معروف في الإسلام ولكن بالظروف الحادثة والمشاكل الجديدة يصبح نظر أهل الشورى لازماً لإيجاد الصيغة المناسبة لتطبيق هذه الأحكام، ويستحيل عقلاً أن يكون لعقل واحد ورأي واحد النظر الأول والأخير في مثل هذه الأمور الخطيرة‏.‏ وخاصة أن مثل هذه الأمور قد تحتاج إلى تشريع متدرج يناسب ظروف الانتقال والبنية الاقتصادية بنية معقدة جداً ليس من اليسير تبديلها وتغييرها سريعاً‏.‏ وتقدير الظروف والمناسبات وإمكانية التغيير والتبديل لا بد وأن يشترك فيه أهل الخبرة والرأي من المسلمين وهذا هو ميدان الشورى وعملها‏.‏

ثالثاً‏:‏ الغنائم‏:‏ المصدر الثالث من مصادر الدخل في الإسلام هو الغنائم ولقد كانت أعظم مصدر من مصادر الدخل يوم كان علم الجهاد في سبيل الله قائماً، والفتوح تتوالى إثر الفتوح، واليوم يفقد المسلمون هذا المصدر بقعودهم عن الجهاد في سبيل الله، بل يفقدون ما في أيديهم من ديار وأموال‏.‏ ومع ذلك يردد غوغاؤهم بأن الجهاد فريضة يجب أن تلغى ليس فقط من واقع المسلمين بل ومن عقولهم وحسهم‏!‏‏!‏ ونظام الغنائم في الإسلام نظام مقنن أيضاً فيه نصوص واضحة جلية وقد اختلف المسلمون في عهد عمر بن الخطاب على أرض العراق الزراعية هل تقسم للفاتحين من جنود المسلمين حسب نصيبهم المقدر شرعاً أو توضع عليها ضريبة سنوية ويبقى فيؤها للمسلمين على مدار الزمن للإنفاق في عدة الحرب وتجهيز الجيوش‏.‏ واستطاع عمر رضي الله عنه ببصره الثاقب، واجتهاده الموفق إقناع المسلمين بإبقائها دون قسمة وفرض ضريبة سنوية عليها وهذا ما عرف باسم الخراج‏.‏

ولا شك أن ستوجد مثل هذه الغنائم في حالة محاولة المسلمين استرداد أرضهم وأموالهم وشرفهم في فلسطين، ولا بد أن ينشأ لذلك اجتهاد لوضع هذه الأموال مواضعها، وتصريفها حسب مصارفها الشرعية، وهذا كائن لا محالة بإذن الله لأنه مقتضى وعد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يخبر به عن الله تبارك وتعالى ‏{‏والله لا يخلف الميعاد‏}‏ ولا يمكن بالطبع الفصل في كل هذه القضايا برأي الحاكم الفرد بل هذا الأمر متروك لأهل الشورى من المسلمين‏.‏

رابعاً‏:‏ الصدقات‏.‏‏.‏

الزكاة فريضة إجبارية تخرج على كل حال وأما الصدقات فنعني بها هنا التطوع الاختياري ببذل المال في سبيل الله وهذا متروك لتقوى المسلمين واختيارهم في الأحوال العادية، فالأوقاف، والصدقات الجارية وجعل حصة معلومة من المال بعد الموت إلى بيت مال المسلمين كل ذلك ساعد قديماً على نشر العلم، ورفع علم الجهاد في سبيل الله وبالتالي في نهضة المسلمين وتقدمهم، ولكن هذه الصدقة تصبح إجبارية إلزامية في أحوال الأزمات والحروب، فللدولة في الإسلام أن تفرض فريضة إجبارية إلزامية في أموال المسلمين وذلك في أوقات المجاعات والحروب، وهذه الفريضة بالطبع لا تخضع لاجتهاد الحاكم وحده، بل لا بد أن يشارك في تقديرها علماء الأمة وأهل الرأي فيها، ومن المفروغ منه أنه لا يجوز فرض مثل ذلك إلا في حالة عدم وفاء المصادر السابقة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏[‏لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه‏]‏‏.‏

خامساً‏:‏ الضرائب‏:‏

المصدر الخامس والأخير من مصادر الثروة أو بيت المال في الإسلام هو الضرائب، والمعروف المشهور أن الضرائب أو ما تسمى في الفقه بالمكوس محرمة شرعاً لأنها أخذ للمال بغير رضى وطواعية‏.‏

ولكن بعض علماء السنة كان له نظر في ذلك بحسب المصالح فلم ير هذا الفريق من العلماء بأساً أن يفرض الحاكم ضريبة ما لسد ثغرة من الثغور في قيام الأمة ونهوضها كالحرب والتعليم والطرق‏.‏ وفسر المكوس المنهي عنها شرعاً بالمكوس التي تؤخذ من الناس على وجه الظلم ولا يعود على دافعها من نفع منها، أما ما يأخذه الحاكم المسلم وينفقه في مثل الوجوه السابقة من ميزانية الحرب والتعليم والصحة وغير ذلك فإنه يعود بالنفع على مجموع الذين دفعوا هذه الضرائب والمكوس‏.‏

والفرق بين الضرائب والصدقات المفروضة أن الضرائب تفرض في الحالات العادية، وأما الصدقات المفروضة فإنها تفرض في حالات الاستثناء فقط‏.‏

ولا شك أن تقدير هذه الضرائب يعود إلى رأي أهل الشورى من المسلمين‏.‏

وجوه الصرف في النظام المالي الإسلامي‏:‏

المصادر السابقة للدخل بعضها قد حدد له سلفاً الوجوه التي ينفق فيها وذلك بنصوص شرعية واضحة‏.‏ فالزكاة قد حددت مصارفها من قبل الله تبارك وتعالى، وكذلك الغنائم فصلت قسمتها، وهناك مصادر أخرى يحدد مصارفها الضرورة والحاجة‏.‏ فالصدقات في الضرورات كالأزمات والحروب والضرائب في حاجات الأمة المختلفة‏.‏ وإذا كان هذان المصدران محتاجين إلى موافقة الأمة المتمثلة في أهل الشورى لإقرارهما‏.‏ فإن الصرف أيضاً يحتاج إلى تقدير الأمة وإشرافها‏.‏

والمصارف السابقة المحددة بنصوص قابلة هي الأخرى للاجتهاد والرأي من وجهين‏:‏

الوجه الأول‏:‏ تقدير حاجة كل قسم من الأقسام التي تصرف فيها الزكاة وإعطاؤه حسب الدخل الحاصل من هذه الفريضة‏.‏ فالفقراء والمساكين والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والرقاب والغارمون وأبناء السبيل والإنفاق في سبيل الله العام‏.‏ كل قسم من هذه الأقسام يحتاج أن تقدر له حاجته حسب دراسة منظمة وتقدير صحيح‏.‏

وأما الوجه الثاني‏:‏ فهو أن بعض هذه الأقسام المنصوص عليه شرعاً قد نضطر إلى الاستغناء عنه فترة ما لأنه لا يوجد مثلاً، أو لا فائدة في وقت ما من القسم له‏.‏ ولذلك منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء لمن أعطاهم الرسول تأليفاً لقلوبهم كالأقرع بن حابس وعيينة بن حصين الفزاري محتجاً أن ذلك وقد كان في المسلمين ضعف، وأن الآن فقد أغنى الله المسلمين عنهم‏.‏ وأعز الإسلام‏.‏ فإما ثبتوا على الإسلام، وإلا فالسيف حكم‏.‏

والعجيب أن الإمام أبو حنيفة أفتى بأن سهم المؤلفة قلوبهم قد انقطع بإعزاز الله للإسلام، واستدل بفعل عمر هذا، ولم يجعل هذه المسألة من مسائل الوقت والظروف، وفي هذا نسخ الآية من القرآن باجتهاد صحابي، وهو أمر مرفوض، والحق الذي لا مراء فيه إن شاء الله وهو ما قرره الإمام الشوكاني وغيره حيث قال‏:‏ ‏"‏والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإن كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت الطاعة إلا بالقسر والغلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة‏"‏‏.‏

وهذا ما ارتضاه أيضاً الشيخ رشيد رضا رحمه الله حيث أورد القول السابق وعقب عليه بقوله‏:‏ ‏"‏وهذا هو الحق في جملته، وإنما يجيء الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق، ومقدار الذي يعطي الصدقات، ومن الغنائم إن وجدت، وغيرها من أموال المصالح والواجب فيه الأخذ برأي أهل الشورى كما كان يفعل الخلفاء في الأمور الاجتماعية، وفي اشتراط العجز عن إدخال الإمام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر فإن هذا لا يطرد بل الأصل فيه ترجيح أخف الضررين، وخير المصلحتين‏"‏‏.‏

وخلاصة الأمر أن النظام المالي في الإسلام خاضع كلية للشورى في الإسلام‏:‏ أما من حيث الإشراف والمراقبة أو من حيث تقدير الضرورة والحاجة والمصلحة في تشريع مصادر إضافية لجمع المال كالصدقات والضرائب أو من حيث تقدير حاجة كل قسم وهذا ميدان عظيم من ميادين الشورى في الإسلام‏.‏

بقي أن أسجل في نهاية هذا الفصل أن أمم الغرب -وهذا من أسباب رقيها الدنيوي وتغلبها علينا- وقد طبقت جوانب هامة من هذا النظام من حيث الأخذ بحكم الإسلام في الركاز وجعل هذا ميداناً للعمل الحر والشركات الأهلية التي تفرض الدولة عليها ضريبة للدخل تقارب كما قلت ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك استطاعت هذه الشركات الأهلية أن تنمي مصادر دخلها، وأن تعزز ميزانية دولها، والاستعمار الاقتصادي الذي نعاني منه الآن إنما هو استعمار لشركات أهلية أجنبية وليس لحكومات أجنبية‏.‏ ولذلك فإني أوصي في هذا المقام أن ترفع الدول الإسلامية يدها عن كل أنواع الركاز، وتطرح هذا للشركات الأهلية الإسلامية وستستطيع أي شركة ناجحة أن تقوم مقام الشركات الأجنبية فالخبرة البشرية تشترى وكذلك المعدات والآلات، والمال نملكه والحمد لله، وستستطيع هذه الشركات الأهلية الإسلامية -إن وجدت- أن تستخرج أعظم ثروة وهي البترول من أرضنا، بل وستجد لها مجالاً في بلاد أخرى للتنقيب عن البترول والمعادن‏.‏

خامساً‏:‏ رقابة الحاكم وتسديده‏:‏

الميدان الخامس لعمل أهل الشورى هو رقابة الحكم وتسديد الحاكم فالحاكم في الإسلام ليس حاكماً مطلقاً ولكنه حاكم مقيد بدستور الشرع ونصوص الكتاب والسنة، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل مسلم حق الإنكار للمنكر سواء صدر هذا من عامة الناس أو خاصتهم فالقائد والإمام في الإسلام معرض للنقد والإنكار عليه متى خالف نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإذا كانت الدساتير في عهود الظلم والجاهلية قد جعلت ذات الحاكم فوق النقد، وجعلت من تعرض لنقده كأنما تعرض لنقد الدولة وقدسية النظام، وبهذا جعل الأمراء والحكام والملوك آلهة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فالذي يحكم ولا معقب لحكمه هو الله والذي لا يسأل عما يفعل هو الله سبحانه وتعالى وذلك أنه العليم بكل شيء وأما غيره فمعرض للخطأ والزلل والغفلة بل وللهوى والميل مع المصلحة، وقد عجبت أشد العجب عندما ناقشت بعض المتحمسين للإسلام والذين يؤلفون جماعات للدعوة إذ وجدت آراءهم ومعتقداتهم في أنفسهم أنهم فوق النقد، وأن نقدهم إنما هو نقد للنظام ذاته أي للإسلام نفسه‏.‏‏.‏ إن فهمكم هذا لا يختلف عن فهم سدنة الحكم الجاهلي في أشد عهود الطغيان تسلطاً وقهراً‏.‏ فإذا كان ذواتكم هي ذوات النظام والنظام عندكم هو الإسلام نفسه لأنكم تدعون السير على هداه إذن أصبح النقد لكم كفراً بالله تعالى لأنه اعتراض على تشريعه‏.‏‏.‏

وماذا تعترفون أنتم بهذا الفهم عن حكم طغياني أن يقول للناس كما قال فرعون ‏{‏ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏}‏ لقد امتاز الإسلام عن جميع مذاهب الأرض أنه جعل كلمة الحق والصدع بها حقاً لكل مسلم بل واجباً على كل مسلم بل كان مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم به العهد على بعض أصحابه ‏[‏أن يقولوا الحق لا يخافون في الله لومة لائم‏]‏ قالوا‏:‏ الحق لنا يجب أن يقال سراً خوف الفتنة ولغيرنا لا بأس أن يقال جهراً‏.‏ قلنا كلامكم هذا هو الفتنة‏.‏‏.‏ لقد دعا عمر الناس إلى قول الحق له وذلك عندما قيل له‏:‏ اتق الله‏.‏‏.‏ قال‏:‏ لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها وقال أبو بكر في خطبة العرش ‏"‏أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم‏"‏ فنبذ الطاعة حال معصية الإمام حق للأمة‏.‏ وقال عمر‏:‏ ‏"‏إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني‏"‏ ولم يقل فانصحوني سراً‏.‏‏.‏ حتى لا تقتلوا النظام ولا تهدموا الإسلام‏.‏ فأنتم بالله خير أم عمر‏؟‏ أم أبي بكر‏؟‏ ولقد كان الخير في الأمة عندما كانت النصيحة جهراً، فلما آلت إلى السرية والاستخفاء، فسد الناس أمراء وعامة وليس هذا مجال تفصيل هذا الأمر‏.‏ والمهم هو أن نعلم أن حق الإنكار على الحاكم حق لكل مسلم بل هو واجب على كل مسلم يعلم أن ثم منكراً أظهره أمير فعليه بيانه، وبذلك تستقيم أمور شرعية ويستقيم الحاكم لأنه سيخاف الفضيحة والنقد وأما إذا آلت الأمور إلى السرية والمداراة فسدت النفوس وحلت الموعظة واستشرى الشر ووجد الاستبداد‏.‏

وإذا كان التقويم والتسديد للحاكم حقاً بل واجباً على كل مسلم كان وجوبه على أهل الشورى ألزم وأحرى فهو المفوضون من الأمة المؤتمنون من الحاكم، ولذلك فإن حق التسديد والتقويم واجب يفرضه الالتزام بالدين ويفرضه أيضاً التفويض من الأمة، والإستئمان من الحاكم فهو واجب مثلث أو قيل هو واجب من ثلاث جهات من الله الذي أخذ العهد على أهل العلم بالبيان وعدم الكتمان ومن الأمير الذي ائتمن أهل الشورى على تقويمه وتسديده، ومن عموم الناس الذين فوضوا في شؤونهم أهل الشورى‏.‏

وإذا كانت الدول التي تدعي الديمقراطية قد أعطت النائب في البرلمان أو مجالس الأمة حقاً خاصاً سمي بالحصانة أي براءة الذمة والحماية لقول كلمة الحق‏.‏ فإن الإسلام قد أعطاها لكل مسلم، فكل مسلم في ظل نظام إسلامي صحيح يحمل هذه الحصانة وهي براءة ذمته من الدخيلة والتهمة حتى يثبت عكس ذلك، وحمايته ليقول كلمة الحق‏.‏ فكلمة الحق فرض على كل مسلم، ولا تتم هذه الكلمة إلا بحماية وأمانة وأمن، وقد تقرر في أصول الفقه إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذاً يجب على الحاكم المسلم أن يؤمن الحصانة والحماية وبراءة الذمة لكل مسلم ليقول كلمة الحق وذلك أن قول كلمة الحق واجب أوجبه الله عليه ولا يتم هذا الواجب إلا بهذه الحماية فيجب أو توجد الحماية والحصانة‏.‏

وإذا كانت هذه النعمة قد سلبها المسلمون مثلما سلبوا كثيراً من النعم بتهاونهم وتفريطهم فإنها قد أسهمت إسهاماً كبيراً في إطالة ليلهم وإبعاد نهارهم‏.‏ فمن تشرق عليهم شمس الحرية‏؟‏ فيقول أحدهم كلمة الحق يبذلها الصغير للكبير، والمحكوم للحاكم‏.‏‏.‏‏؟‏ وما أرى هذا الليل زائغاً سريعاً وذلك أن كثيراً من المقلدين الجامدين قد زيفوا مفهوم الطاعة في الإسلام فجعلوها طاعة عمياء خرساء فقد رددوا ‏[‏اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد‏]‏ دون فهم ودون وعي، وحجبوا نصوص الطاعة عن نصوص التقويم والتسديد والنصح فخلقوا الاستبداد والطغيان بل أن كثيراً من المتحمسين للإسلام الذين زعموا الدعوة إلى الله وكونوا الخلايا والتنظيمات أمروا الأتباع بالسمع والطاعة، بلا مناقشة وفهم واسلطوا عليهم سيفاً أسموه مصلحة الدعوة وسرية الحركة، وقادوهم في هذه العماية إلى التهور تارة والإنجحار تارات ثم إلى التمزق والضياع، ولو كانت هناك أعمال تحت الشمس وفي وضح النهار أقول لو كانت هناك نصح وتناصح وتربية على الصدع بكلمة الحق وعلى النقد البناء لجنبوا الدعوة المزالق والتبدد والضياع‏.‏ ولذلك فإن الليل ليل المسلمين سيطول حتى تنشأ أجيال تتعلم الصراحة والوضوح وكلمة الحق لا تخاف في الله لومة لائم‏.‏ ولم أر في حياتي كلمة حق واحدة علنية أعقبت فتنة أو عطلت مصلحة‏؟‏ ولكنني وجدت أن إخفاء النصيحة والضيق بها يولد قالة السوء في السر ثم يولد الجيوب التي تعمل في الخفاء ثم ينتج الضياع والتمزق‏.‏ فمن يقدر من قادة المسلمين قيمة الكلمة الطيبة والنصيحة الخالصة العلنية فيقبلوها من قائلها لا يهابون ولا يخافون‏.‏

وإذا كان الإسلام قد أعطى كل فرد في الجماعة الإسلامية حق النصح والتقويم والتسديد لقائده وأميره، فإن هذا الحق بل الواجب في ذمة أهل الشورى وهم أهل الحل والعقد أشد وجوباً ولزوماً لأن هذا جزء من مهمتهم الأساسية التي رشحوا من أجلها‏.‏

وغير خاف أن إعطاء الحصانة للنائب عن الأمة في النظام الديمقراطي مفخرة لهذا النظام يجب أن نعترف بها، ويجب أيضاً أن نعترف أن التطبيقات السيئة لنظام الإسلام في الحكم قد حجبت طويلاً كلمة الحق عن الظهور وهذه التطبيقات السيئة ليست حدثاً شاذاً للأسف وإنما مرت عبر عصور طويلة ما زالت إلى يومنا هذا حتى أن كثيراً من المنتسبين للإسلام لا يفهم من قيام دولة للإسلام إلا القتل والصلب ومنع الرأي المخالف‏.‏ وهذا خطأ في الفهم‏.‏

ونحن إذ نعترف بأن الإسلام قد أعطى الحماية والحصانة لكل فرد في الأمة أن يقول كلمة الحق التي يراها ويظنها حقاً، فإنما نعترف بشيء واقع في الإسلام قدمنا عليه الأدلة والبراهين ولا يوهن هذا الحق سوء التطبيق في عصور التسلط والقهر‏.‏

وعلى هذا فأي مجلس شورى في ظل نظام إسلامي صحيح ستكون إحدى مهامه الرئيسية تقويم الحاكم ونصحه وإرشاده، كما كان لها من قبل توليته وعزله وإلغاؤه‏.‏ ولذلك فالحاكم نائب عن الأمة في تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى التي اختارته وهي التي تملك عزله‏.‏ وهي التي وكل إليها تقويمه إذا حاد، وتسدده إذا أخطأ‏.‏

وليس الحاكم في الإسلام نائباً عن الله -حاشا وكلا- ولو كان ذلك صحيحاً لكان منصوصاً عليه من الله بأن فلان قد اخترته لكم فاسمعوا وأطيعوا وذلك كما تقول الشيعة بأن الإمام لا بد وأن يكون منصوصاً عليه من الله، ولذلك اعتقدوا في الأئمة النصحة وأنهم لا يقولون خطأ أبداً، وأما عند أهل السنة قاطبة فالإمام نائب الأمة وهو يصيب ويخطيء الأمة هي التي تملك توليته وهي تملك عزله، ويجب عليها وجوباً شرعياً نصحه وتسديده وتقويمه‏.‏ وفي هذا الإطار عليهم له حق الطاعة ما دام لم يأمر بمعصية ولم ينه عن طاعة‏.‏

وبهذا نعلم أن من الواجبات الأساسية لمجلس شورى في ظل نظام إسلامي نصح الحاكم وتسديده وهو واجب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

سادساً‏:‏ بحث أحكام المعاملات الحادثة‏:‏

في كل يوم تستجد للناس معاملات وأقضيات لم تكن في أسلافهم، وقد أتم الله سبحانه وتعالى دينه في حياة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شرع إلا ما شرع، وبعض هذه المعاملات الحديثة قد يشتبه بما حرم الله أمثاله، فيخاف المسلم الوقوع في الحرام، ولذلك شرع لنا الاجتهاد لإلحاق كل معاملة بأصولها من الحل والحرمة‏.‏ فالأطعمة والأشربة التي تتصف بما حلل الله من الطيبات وتلحق بالحلال والأطعمة والأشربة التي يتصف بالوصف التي جعله الله علة في التحريم كالخبث والإسكار فإنها تلحق بأصولها من الحرام‏.‏ والمعاملات التي غلب عليها التراضي والعدل ألحقت بالحلال، والمعاملات التي غلب عليها الغش والحيلة والحظ والغرر ألحقت بأصولها من التحريم‏.‏ وهكذا وهناك معاملات تنشأ يشتبه الحرام فيها والحلال فيغلب بعض الناس فيها الحلال لما فيها من الحل والخير ويغلب بعض الناس الحرام لما فيها من الحرام والشر وهكذا والوصول إلى الحكم الصحيح وخاصة في معاملات سيبنى عليها قضايا وحقوقاً واجب في ظل حكم إسلامي والحكم في الإسلام أصلاً هو حكم الله ولذلك كان المجتهد يجتهد إلى ما يظن أنه حكم الله وقد مضى هذا مشروحاً في أول بحث الشورى‏.‏

ولم يعرف تاريخ الإسلام ولا يجوز أن يعرف الوصول إلى الحكم الشرعي بطريق التصويت لأنه حكم الله سبحانه وتعالى لا يعرف بالكثرة أو القلة وإنما يعرف بالنص فإن لم يكن فبالاجتهاد كما مضى، وليست الأصوات والكثرة دليلاً على الحق في ذاته، ولذلك فلا يجوز قطعاً في التعرف على حكم شرعي أن نراعي فيه كثرة القائلين أو قلتهم، وإنما الإجماع فقط جعل حجة شرعية لأن الأمة كلها يستحيل أن تجمع على الباطل فإن الله قد عصمها من ذلك ولو هذه العصمة لما كان هذا محللاً ولكن الله لم يعصم الكثرة من الوقوع فيه، بل قد يكون الباطل مع الكثرة والحق مع القلة ولهذا أمثلة كثيرة‏.‏

والحاكم المسلم سيحتاج في الوصول إلى أحكام شرعية في معاملات كثيرة كثر فيها الرأي والخلاف‏.‏ والطريقة لمعرفة الحق والصواب في هذا الأمر إنما هو الاجتهاد ولا بد أن يكون مجتهداً لأن الاجتهاد شرط من شروط صحة الإمامة العامة، فالإمام العام لا يكون مقلداً قط اللهم في حالات الضرورة والقهر، ذلك يكون كالميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله يؤكل ذلك كله اضطراراً‏.‏ وكذلك يذعن لحكم المقلد اضطراراً لا اخياراً وقد أخطأ خطأ فاحشاً من قاس حالات الضرورة على حالات الاختيار والشورى والمهم أن الحاكم المسلم بصدد الوصول إلى حكم شرعي لحادثة أو معاملة جديدة سيجتهد، ومن أركان هذا الاجتهاد أن يسأل أهل العلم، وأهل الشورى هم أهل العلم أو أهل العلم يجب أن يكونوا أهل شورى، وكذلك كان القراء وهم الحفاظ الفقهاء هم أصحاب الشورى في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ وبسؤال أهل العلم يصل الحاكم أو الأمير إلى ما يظن أنه حكم الله في هذه الحادثة أو المعاملة الجديدة‏.‏

وهكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نزل به الأمر لا يعرف حكمه بالنص من الكتاب والسنة جمع له المهاجرون فسألهم ثم الأنصار فسألهم فيما كان عند أحدهم من نص حكم به، فإن اجتمعوا على شيء قضى به‏.‏ فإن اختلفوا اجتهد رأيه رضي الله عنه‏.‏ وهذا هو المسلك الصحيح في الوصول إلى الحكم الشرعي‏.‏ الحكم بالنص فإن لم يكن فالحكم بإجماع أهل الفضل والعلم في الأمة فإن لم يحصل اجتهد الإمام رأيه ونسب القول إليه فيقال حكم عمر في هذه المسألة بكذا وقضى فيها بكذا‏.‏

وذلك حتى يكون لمن بعده الاختيار في نقض هذا الحكم إذا خالف الحق أو حدثت منه مفسدة أو وجد الخير بخلافه‏.‏

وسيأتي تفصيل طريق الوصول إلى الحكم الأخير في الشورى في الفصل الخامس بذلك إن شاء الله تعالى والمهم هنا أن نعلم أن من مهمات الشورى‏.‏ إبداء الرأي فيما يجد من معاملات وأقضيات وحوادث لاستنارة الإمام وتوجيهه إلى الرشد‏.‏

خلاصة‏:‏

مر بك الآن ستة ميادين يعمل فيها رجال الشورى هي باختصار تولية الإمام الكفء وعزله بشروط في ذلك موضحة في كتب السياسات ونصح الإمام وتسديده وتقويمه عند الميل والانحراف‏.‏ وكذلك تنظيم نظام المال ووضع كل شيء منه في نصابه حتى أن راتب الإمام لا يعنيه إلا أهل الشورى، فلم يعين راتب أبي بكر وعمر إلا أهل الشورى من المسلمين فانظر كيف يستبد الملوك والرؤساء والأمراء اليوم بالمال العام ويفرضون لأنفسهم وذويهم منه ما يشاؤون ويحرمون منه من شاؤوا وكل ذلك باسم الإسلام وتحت ظله‏.‏

وكذلك فمن مهمة رجال الشورى بحث الأوليات في تطبيق حكم الإسلام وذلك للظروف الطارئة على بلاد المسلمين وتغيير أنظمتهم بأنظمة كافرة بل وجميع أوضاعهم الاجتماعية والتعليمية والخلقية ولا بد به الشورى لبحث أهم الأعمال والقرارات بالبدء في التنفيذ‏.‏

وكذلك فأهل الشورى هم مخططون سياسة الأمة حالة سلمها وحربها فتنظيم السياسة الخارجية للأمة من مهمات الشورى‏.‏

وأخيراً فالإمام يسترشد بأهل الشورى آرائهم في الوصول إلى الحكم الشرعي للمعاملات الحادثة والقضايا الجديدة وقد مر بك ذلك والحمد لله مفصلاً‏.‏